تعلمت من الحياة

تعلمت من الحياة:
لن ينكسر قارب الحياة على صخرة اليأس مادام هناك مجداف اسمه الأمل.

Wednesday 14 January 2009

صواريخ المقاومة الفلسطينية.. نظرةٌ عقلانية

صواريخ المقاومة الفلسطينية.. نظرةٌ عقلانية
السبت 13 محرم 1430 الموافق 10 يناير 2009


د. عادل بن أحمد باناعمة

مدخل...

(ومقابل ماذا يحشرون شعبهم المشلول في حبسٍ مأساويٍ، حبسٍ اسمه غزة، ويستمرون في إطلاق صواريخ لا تفعل أكثر من حفرٍ صغيرةٍ في أرصفة تل أبيب.. ثم يغضبون عندما تهرشهم إسرائيل القبيحة، بتلك البشاعة، وتجعل بيوت المدنيين ركاماً مختلطاً بعظامهم، بل يطلقون ألسنتهم بالسباب واتهام العرب والمسلمين جميعاً بالتواطؤ والخذلان والخيانات، ولا يتذكرون وسط كل هذا من إساءتهم لشعبهم ومقامرتهم به شيئاً)!!
[عبد الله ثابت، جريدة الوطن، العدد: 3015، 3/1/1430هـ]

(جرّب العرب الحروب فلم تزدهم إلاّ خبالاً وخساراً، وجرّبوا المقاومة المسلّحة فلم تزدهم إلاّ رهقاً وتشتتاً وضياعاً... "حماس" تنطلق من رؤية جماعة الإخوان المسلمين التي تريد الوصول إلى السلطة بأي ثمنٍ والمحافظة عليها بأي سعرٍ، حتى لو كان الثمن دماء الفلسطينيين ودمار غزّة، وأن يخربوا بيوت الفلسطينيين... إنّ جرح فلسطين الغائر لن يحلّه الغوغائيون، ولن ينقذه المتاجرون به، بل حلُّه يكمن في العقل والحكمة والسياسة الواعية المنضبطة، بعيداً عن الشعارات والهتافات الفارغة التي تضرّ أكثر مما تنفع).
[عبد لله بن بجاد، صحيفة الاتحاد الإماراتية 1/1/1430هـ ]

( وذبيحة غزّة التي لم ينِ الجزّار الفاتك الإسرائيلي يعيث فيها تقتيلاً وتجريحاً وتدميراً هي ذبيحة لها جلاّب أوصلها لحتفها؛ فالجزّار الإسرائيلي لم يستيقظ ذات صباحٍ ليقول سأهاجم غزّة هذا الصباح، ولكنّ المتحرّشين به (بلا سببٍ!!) هم الذين جلبوها له على طبقٍ من دمٍ وشعاراتٍ وغوغائيةٍ، وهم الذين قالوا له بلسان الحال اذبحها لنمشي في جنازتها).
[عبد الله بن بجاد، صحيفة الاتحاد الإماراتية، 8/1/1329هـ]

(قليل من الألعاب النارية، التي قتلت من الغزّيين أكثر مما قتلت من الإسرائيليين، وتهجم إسرائيل، وينسى الجميع البرنامج النووي الإيراني، وهذا هو كل ما تريده إيران، كما «القاعدة» وكل المنظمات المتطرفة التي لم تحظ بدولة).
[ تركي الحمد، الشرق الأوسط، 3/1/1430هـ]

(واليوم، ونحن على صدى تبرعات جديدة لفلسطين، نفكر ونسأل، ويخرج السؤال من الحلق إلى الخلق بعد طول صمت: هل تجد السعودية التقدير الشعبي العام بعد ذلك كله؟)
[فارس بن حزام، جريدة الرياض، العدد:14799، 2/1/1430هـ]

هذه عبارات طائفةٍ من الكتابِ والمثقفين تعليقاً على حربِ غزةَ الطاحنة التي ذهب ضحيتها حتى هذه اللحظة نحو ثمانمائة شهيد.

عبارات – وإن حاولَتْ عبثاً أن تجعل بين يديها مقدمات تضامنية مع الشعب المحاصر – لا تنتهي إلاّ إلى خذلان غزةَ وأهلها، لتكون (قصفاً) آخر فوق القصفِ الذي تتعرضُ له! ولاسيما عند يقول أحدهم إن المقاومة تحرشت بإسرائيل بلا سبب!! بلا سبب!! هكذا!! لم تفعل إسرائيل شيئاً تستحق به أن يوقف في وجهها!!

وفي حين نجدُ كتاباً غربيين بل يهود (روبرت فيسك، وماري فويس، وكاسيلرز مثالاً) يشنّون حملةً شعواء على إسرائيل ووحشيتها وهمجيتها، ويصرحون بأنَّ للمقاومة حقَّها المشروع، يشنّ إخواننا هؤلاء – غفر الله لهم – حرباً شرسةً على المقاومة الفلسطينية!

لن ألتفت كثيراً للتوافق العجيب بين هذه المقالات وتصريحات بوش وأولمرت وساركوزي! ولن أدخل في سياقات تخوينٍ وعمالةٍ! فتلك أمورٌ يصعبُ الجزم بها من أجل موقفٍ فكريّ أو رأيٍ سياسيّ. وسأحاول – بصعوبة بالغةٍ – أن أتجرّدَ من العواطف الثائرة لأناقشَ هذه الأطروحاتِ بذات العقلانية التي تزعم أنها تتحلى بها.

على هذا دار القُمْقُم...

تتبنى هذه الأطروحات في مجملها ثلاث أفكارٍ رئيسةٍ:

الفكرة الأولى: أنَّ صواريخ المقاومة و(ألاعيبها) القتالية هي السبب المباشر فيما حدث لغزّةَ، وبالتالي فهي شريكة (للجزار) في جريمة (الذبح)، بل هي التي وضعت الشاةَ بين يدي الجزار، وأمسكتها بعنف ليتسنى له الذبح كما يريد!

الفكرة الثانية: أنّ المقاومة الفلسطينية الإسلامية إنّما تسعى إلى السلطة من جهة، وتحقيق أجندة خارجية من جهة أخرى، وكل ذلك على حساب الفلسطينيين المساكين، متاجِرةً بدمائهم، غير عابئة بأرواحهم!

الفكرة الثالثة: أنَّ المقاومة الفلسطينية لا تشكر جميلاً، ولا تحفظُ معروفاً، وأنّها تستلم تبرعاتِ الدولِ بيد وترجمهم بحجارة التخوين باليد الأخرى!

وجِماعُ هذه الأفكار الثلاثة أن المقاومة الفلسطينية المسلحة (غلطانة من ساسها لراسها) كما تقول العامة! أو هي غارقةٌ في الرَّطَأِ واللُّغابةِ والتَّهْتارِ والطَّرَطِ (كلها بمعنى الحماقةِ)، ورموزها أصحابُ هَذَرٍ وكَنْخَبةٍ (كلها بمعنى الخلط في الكلام) كما يقول العرب الأقحاح!

بعبارةٍ أخرى تفضي هذه المقولات إلى فكرةٍ مركزية واحدةٍ هي أنَّ خيار المقاومة المسلحة خيار خاطئٌ من كل جهةٍ. وأن الحل ّ – كما قال أحدهم - يكمنُ " في العقل والحكمة والسياسة الواعية المنضبطة، بعيداً عن الشعارات والهتافات الفارغة التي تضرّ أكثر مما تنفع".

وسأكون هنا معنياً بمناقشةِ الفكرةِ الأولى فحسب؛ لأنّه من العبثِ أن يصدق عاقل أن أولئك المقاتلين الذين حملوا أرواحهم على أكفّهم، واصطفوا في طوابير الشهادةِ منذ عشرات السنين هم طلاب سلطة! نحن نفهم أن يكون الفارُّون من المعتركِ، والذين يعيشون في الرفاهيةِ يجنون الملايين، والذين يكتفون بالتصريحات وهم آمنون، نفهم أن يكون أولئك طلاب سلطة.. لكنْ كيف يكون طالبَ سلطةٍ من يشرع صدره للموتِ، ويطلبُ الشهادة بابتسام؟ وكيف يكونُ طَلاّبَ سلطةٍ من لم تُغيِّر السلطةُ شيئاً من أحواله المادية والاجتماعية؟

كيف للمقاومة أن تكون باحثةً عن سلطةٍ وكل قياداتها تقريباً نالت الشهادةَ أو تعرضت لمحاولة اغتيال؟

ثم كيف تكون (متفرّسةً) ذات أجندة إيرانية (فارسية) وهي التي جاءت بطوعها إلى صلح مكةَ تلك الخطوة التي أغضبت إيران غضباً شديداً؛ لأنّها أعطت للسعودية شرف السبق؟

وأمّا المنُّ على إخواننا بتبرعاتِنا، والغضب إذا اشتكوا من بعض تقصيرنا، فلا أجد لها مثلاً إلاّ طالباً كُلِّف بثلاثة واجباتٍ، فأنجز واحداً منها على وجهه وأغفل اثنين، فلما لامه أستاذُهُ على ترك الواجبين غضب وقال: ألا يكفيك أنني حللتُ الواجبَ الأول بإتقان!!

حسناً.. لقد تبرعنا.. وأردنا بذلك وجه الله لا شكر الناس.. وقد شكرَنا إخواننا مع ذلك علناً ورحبوا بوقفتنا، لكنهم عتبوا علينا أننا تركناهم يموتون ويقتلون، وقد كان بوسعنا أن نفعل أشياء كثيرة.

هل أخطؤوا؟!! لا أظنّ!!

ولكن هكذا يظنُّ من يمنُّ على الناس بما أعطاهم..بل.. بل بما أعطاهم غيره!!

ولو شئنا أن نجريَ على هذا النفسِ من ( المَنِّ ) فإنَّ المنة هي لإخواننا الفلسطينيين، فهم الذين أوقفوا طموحاتِ إسرائيل التي لو تركت لالتهمتنا ولكانت طائراتها اليوم فوق بيوتنا! وعليهِ فإنّنا كل ما أعطيناهم لا يساوي جزءاً يسيراً من فضلهم علينا بصدّهم هذا العدوان وإيقافِهِ عند حدوده.

لكل ماسبق قلتُ: إنني سأقتصر على مناقشة الفكرة الأولى.. فكرة أن صواريخ المقاومة هي سبب المشكلة.

مقارنةٌ تكشفُ الحقيقة...

لنبدأ نقاشنا من هذه المقارنة التاريخية بين ما حدث قبل اثنتين وأربعين سنة وما يحدث الآن.

في حرب حزيران 67 تمكّنت إسرائيلُ من تدمير كامل سلاح الجو الأردني، ومعظمِ السلاح الجويّ السوريّ، وعددٍ كبيرٍ من طائراتِ الجيش العراقي!! واستولت على منابع النفط في سيناء!! وسيطرت إسرائيل على منابع مياه الأردن!! وتحكمتْ في خليج العقبة!! واكتشف العربُ أنّهم خسروا – في خمسة أيام فقط - عشرة آلاف شهيد وجريح، وخمسة آلاف أسير، وأنّه قد شُرّد نحو 330 ألف فلسطيني!! وأنَّ إسرائيل قد احتلت أراضي من خمس دول عربية هي: مصر (شبه جزيرة سيناء وغزة)، وسوريا (هضبة الجولان)، ولبنان (مزارع شبعا)، والأردن (الضفة الغربية والغور)، والسعودية (جزيرتا تيران وصنافير على مدخل خليج العقبة).. واكتشفوا أيضاً أنّ ما احتلته إسرائيل في تلك الحرب ضاعف مساحتها ثلاث مراتٍ!! [انظر: فلسطين دراسات منهجية: 304] و [الإستراتيجيات العسكرية: 315].

وأبشع من هذا كله.. ضاعت القدس!!

لم تكن إسرائيل وقتها في مواجهةِ الفلسطينيين وحدهم بل واجهت العرب جميعاً..

العرب الذين كانوا يمتلكون قرابة ألفين وثلاثمائة دبابة مقابل ألف دبابة إسرائيلية!

العرب الذين كانوا يمتلكون قرابة ستمائة طائرة بإزاء مئة وسبعٍ وتسعين طائرةً إسرائيلية!

العرب الذين كان تعداد مقاتليهم ثلاثمئة وثلاثين ألفاً بإزاء مئتين وخمسين ألفاً من الإسرائيليين!

ومع تفوق ميزان القوى لصالح العرب كان ما كان.. وشهد الخامس من حزيران يونيو 1967م أقصر حرب في التاريخ.. حرب لم تدم أكثر من خمسةِ أيام ضاع فيها كل شيء!!

انتهت المقاومة.. وانكسرت الجيوش.. واستسلم الجميع!! وبقيت الجولان وسيناء وشبعا محتلةً حتى الآن أو في حكم المحتلة!!

واليوم..

ها نحنُ في مطلع الأسبوع الثالث من أيام حرب غزةَ الغاشمة..

الحربُ التي بدأت بغتةً بعد تطميناتٍ (عربية) للفلسطينيين بألاّ شبحَ حربٍ يلوح في الأفق!!

الحرب التي اختارت إسرائيل لبدايتها توقيت الذروة (الحادية عشر والنصف صباحاً) ليزداد عدد الضحايا.

الحرب التي ألقت وتلقي فيها إسرائيل بثقلها العسكري أطناناً من القذائف على بقعةٍ صغيرة لا تتجاوز مساحتها (300) كلم مربع.

الحرب التي لم تتصد لها إلاّ المقاومة الفلسطينية دون أن يكون لها عون عسكريٌّ من أيِّ جهةٍ خارجية.

الحربُ التي كانت فيها الأنظمة العربية عوناً على الفلسطينيين بإغلاق المعابر، وكبح المسيرات، والتباطؤ في عقد القمة، والتراخي في اتخاذ قرارات شجاعةٍ مؤثرةٍ.

الحرب التي كان فيها بعض الفلسطينيين عوناً على إخوانهم، حتى إنهم لم يجدوا شيئاً يقولونه سوى التصريح بأنهم (جاهزون) لملء الفراغ السياسي الذي سيحصل في غزة بعد العدوان!!!

الحرب التي لعبتْ فيها الآلة الإعلامية لعبتها القذرة؛ فجعلت الضحيةَ مجرماً، وشغلت الناس بصواريخ المقاومة عن أطنان قذائف الأباتشي!!

ومع كل هذه الوقائع والحقائق.. إلاّ أنَّ صواريخ المقاومة مازالت تنطلق! بل إنها بلغت حيث لم تبلغ من قبل!! وأصابت أكبر قاعدةٍ جوية إسرائيلية!! وبدأ اليهود يختبئون في الملاجئ!!

وما إن بدأ الاجتياح البريّ حتى حصدتْ المقاومةُ أرواح عشرات الجنود الإسرائيليين!!

هل لاحظنا الفرق بين الموقفين؟

إنَّ يهودياً واحداً داخل إسرائيل لم يصب بالفزع عقيب حرب سبعة وستين.. وها نحن نرى في حرب غزة مليون إسرائيلي في دائرة الخوف، يدخلون إلى الملاجئ، ويعطلون دراستهم، ويبكون!!

إنّ مسؤولاً يهودياً واحداً لم يساوره القلق عشية حرب سبعة وستين، وفي حرب غزة يرى الملايين عبر شاشات التلفزة وزيراً يهودياً يغلبه الفزع، ويختبئ تحت سيارة ليبث من هناك تهديداته وتوعداته!!

كانت ابتسامةُ ليفي أشكول وموشي دايان تتسعُ مع مرور كل يوم من أيام الحرب وما بعدها، وها نحن نرى ابتسامات أولمرت وباراك وليفني تتقلصُ مع مرور كل يوم!!

ما الذي تغير؟

ما الذي جعل دول العربِ مجتمعةً تنهزم في حرب الأيام الخمسة، بينما تصمدُ حركات مسلحةٌ في وجهِ حربٍ ضروس؟

إنّ تبنّي فلسطين الداخل لخيار (المقاومة المسلحة) هو الذي أحدث هذا الفارق الجوهري!

إنّ (حجر) المقاومة، و(مقلاع) المقاومة، (وبندقية) المقاومة، و(صاروخ) المقاومة.. هو ما أحدث هذا البون الشاسع.

وهذا ما يجب أن نعيه جيداً.. قبل أن نزعم أن (صواريخ المقاومة) هي مشكلة فلسطين.

باعتقادي أن الصواريخ هي (حل) وليست (مشكلة).. فقد كنّا نُضربُ ونصمتُ و(نبوس) كفَّ من ضربنا.. على الأقل الآن نُضرَبُ ونضرِبُ.

تاريخٌ حافلٌ بالدمِ...

وربما كان بالإمكان تصديقُ أن صواريخ المقاومة وحدها كانت سبباً لعدوان إسرائيل، لو لم تكن إسرائيل نفسها قد نفذت عشرات المجازر البشعة دون أن تستفزّها صواريخُ، ولا حتى حجارة!

لقد ارتكبت إسرائيل نحو (70) مجزرة بحقِّ الفلسطينيين بهدف التهجير والتطهير العرقي، برزت منها (17) مجزرة بشعة، منها: دير ياسين، وقبية، واللد، وعيلوط، والطنطورة، والصفصاف، وصبارين وغيرها.

وأكثر من هذا امتدت مجازر إسرائيل إلى خارج حدود فلسطين!!

في الحادي عشر من فبراير 1967 نفّذ الجيش الإسرائيلي مجزرة أبو زعبل بمنطقة القاهرة وقتل (69) عاملاً مصرياً فيما جرح مائة آخرين.

وفي الثامن من أبريل 1970 نفذت إسرائيل مذبحة مدرسة بحر البقر بمنطقة بور سعيد قتل خلالها (46) طالباً في الصف الأول وجرح (16) آخرون.

وفي عام 1982 نفذت قوات الكتائب والقوات الإسرائيلية بقيادة وزير الدفاع وقتذاك أرييل شارون مجزرتي صبرا وشاتيلا اللتين قتل فيهما نحو (1600) شخص.

وفي 18 أبريل عام 1996 استهدفت مجزرة "عناقيد الغضب" مدينة (قانا)، وقتل يومها (109) مدنيين لبنانيين، كثيرون منهم أطفال ونساء احتموا داخل مقر لقوات الأمم المتحدة, وأُصيب بالمجزرة (351) شخصاً آخرين. [انظر تفصيلا أوسع لهذه المجازر في [http://www.almotamar.net/news/33318.htm

هذه نماذجُ فقط..

فهل كانت صواريخ المقاومة التي لم توجد إذْ ذاك سبباً في هذه المجازر؟!

إنَّ قراءة تاريخ كثير من هذه المجازر يبين بوضوح أنها كانت بمبادأة إسرائيلية! أي أنها لم تكن بسبب استفزازٍ ما! إلاّ إذا اعتبرنا أن بقاء الإنسانِ في أرضِهِ وعدم مغادرتِهِ لها استفزاز!!

ولو تتبعنا التاريخ لوجدنا أن كل انتخابات إسرائيلية سبقتها مجزرة عاصفة، فشارون تصدر بعد مذبحتِهِ (جهنم المتدحرجة)، وبيريز صعدتْ به إلى رئاسة الوزراء (عناقيد الغضب)، وليس سراً أن ليفني تخوضُ عبر هذه الحرب معركةً انتخابيةً، ويكفينا أنّ وكالة الأنباء الفرنسية ذكرت في بداية الحرب أنَّ باراك وليفني سجلا تقدما في الاستطلاعات على نتنياهو جراء الحملة على غزة!

وقد نشرتْ وكالة (فلسطين برس) للأنباء بتاريخ 13/11/2008م – أي قبل عدوان غزة بشهرٍ ونصفٍ، وقبل أن تعلن المقاومة انتهاء الهدنة ـ نشرت هذا التصريح: " حذّر الأمين العام المساعد للجامعة العربية لشؤون فلسطين السفير محمد صبيح من خطورة الفترة التي تدخل فيها إسرائيل انتخابات جديدة، والتي يزداد خلالها الهوس واستعمال العنف والقتل خارج نطاق القانون، المدان دوليًا لتحقيق أهداف سياسية".
ـ
[http://www.palpress.ps/arabic/index.php?maa=ReadStory&ChannelID=46094]

زد على ذلك أن جُلَّ الذين تولوا رئاسة وزراء إسرائيل كانوا أعضاء في منظماتٍ إرهابيةٍ لها تاريخ حافلٌ بالجرائم.

فهل نظن بعد هذا أن المقاومة لو استسلمت لذَبْحِ الحِصار، ولم تحرك ساكناً لما أصاب غزة ما أصابها، ولما ذبحها (الجزار)؟

ثم هل من العقلانية و الواقعية الغفلة عن عشرات التقارير التي ملأت صحف العالم والتي تتحدّث عن إعداد لهذه الحرب المدمرة منذ ستة أشهر؟ بل تحدثت عن تواطؤ دولي هنا وهناك؟ وأضواء خضراء تلقتها إسرائيل من قريبٍ وبعيد؟

كيف تصبح صواريخ المقاومة سبباً بينما إسرائيل تعد للحرب وقت توقف هذه الصواريخ واشتغال الغزيين بمشكلة الحصار؟

التزامٌ ووفاء...

حماس لم تنهِ الهدنة.. الهدنةُ كانت تنتهي تلقائياً في 19/12/2008م، وما أعلنته حماس أنها لن تجدد الهدنة. وعدم تجديد الهدنة شيءٌ آخرُ يختلف تماماً عن خرقها.

ولم يكن عدم تجديد الهدنة قرار حماس وحدها.. بل كان قرار جميع الفصائل الفلسطينية في غزة.. كان قراراً إجماعياً.. يمكنُ أن نتفهّمه جيداً عندما نتذكر شروط التهدئة الرئيسة: (وقف العدوان، رفع الحصار، فتح المعابر، نقل التهدئة إلى الضفة الغربية)، هذه هي شروط التهدئة فهل نفذت إسرائيل منها شيئاً؟

وهل من العقل أن توافق غزةُ على تمديد الهدنة بينما إسرائيل تنتهك شروطها الرئيسة، فتحاصر غزة وتخنقها وتمنع عنها الماء والغذاء والوقود والكهرباء؟ هدنة مع حصار وتجويع؟ أهذه سياسة أم تياسة؟

أم أن العقلانية والحكمة لا تكون إلاّ بالتسليم المطلق والخضوع التام للإملاءات الإسرائيلية؟

لقد أدرك (أردوغان) - وهو سياسيٌّ ذهب في التعاون مع إسرائيل إلى مدى بعيد - هذه الحقيقة، وكان شجاعاً في إعلانها حين حمّل إسرائيل المسؤولية؛ لأنها هي التي لم تلتزم بالتهدئة، ورفضت عرضاً تركياً للوساطة بينها وبين حماس.

خيارات الداخل...

المتكلمون عن استفزاز صواريخ المقاومة يصورون للناس أن فلاناً وفلاناً من القادة يتاجرون بالشعارات وأن الشعب هو الضحية!!

إن الجواب يأتي من الشعب نفسه..

الشعب الفلسطيني الذي خرج قبل الحرب بأيامٍ قليلةٍ في حشودٍ ضخمةٍ مؤيداً لخيار المقاومة والجهاد.. ومصطفاً مع الحكومة التي اختارها، "ووفقاً لوكالات الإنباء فإن هذا الاحتشاد الشعبي كان الأضخم في التاريخ الفلسطيني المعاصر" [من مقالة للأستاذ مهنا الحبيل]

صدقوني هذه الملايين لم تخرج من أجل سواد عيون فلان أو فلانٍ، أو تعلقاً باسم حركةٍ أو حزب، لقد خرجت تأييداً لخيار المقاومة الذي يمثله اليوم فلان، وقد يمثله غداً غيره.

جرى ذلك في الوقت الذي عجز فيه (خيار المفاوضات) حتى عن عقد مؤتمره العام بسبب كثرة الانشقاقات والاختلافات التي كان حلها بفصل الكوادر المشاغبة كما قيل!!

الشعبُ الذي قيل إن (المقاومة) حشرته في (صندوق) ضيق، وتاجرت بدمه، وجعلته عرضةً للعذاب.. هذا الشعبُ هو الذي يخرج هاتفاً للمقاومة مؤيداً لبرنامجها، وهو الذي اختارها ابتداءً لتحكمه، وقد كان على وعي ببرنامجها ومعرفةٍ بمنطقها المقاوم... وهو الذي نسمعُهُ – عبر الفضائيات والاتصالات الهاتفية الشعبية- في قلبِ الحربِ يشدُّ على يد المقاومين، ويطلب منهم الانتقام من اليهود.

ثم نأتي نحن لنقول.. مسكين هذا الشعب!! قامر به أبطال حروب الحناجر!!

السؤال المعاكس...

وهناك جانب يجب الالتفات إليه..

دائماً ما يتحدث هؤلاء المتهمون للمقاومة بمنطق: انظروا ماذا سبّبت المقاومة من دمار باستفزازها لإسرائيل..

ولكن أحداً منهم لم يطرح السؤال بشكل معاكس: ماذا كانت ستفعل إسرائيل لو لم تكن هناك مقاومة؟!

ألم تكن إسرائيل إذْ قامت تتحدث عن دولة عظمى من البحر إلى النهر؟ ألم تكن تتحدثُ عن إبادة كاملةٍ للفلسطينيين؟ هل نسينا تصريحات ليفي أشكول وجولدا مائير وموشي دايان وإسحاق رابين؟! ما الذي خفض سقف الطموحات الإسرائيلية، وقلل أحلامها؟

أليست المقاومة المستمرة هي التي أجبرت إسرائيل على بعض التنازلات؟ أليست (السلطة الوطنية) التي يدعو أربابها اليوم إلى ترك خيار القتال؟! أليست هي وليدة المقاومة والقتال؟ أكان اليهود يسمحون بشيء كهذا على هزاله لولا ما وجدوه من مقاومة صلبةٍ؟

الصواريخ والنموذج الإدراكي...

لنطرح المسألة من زاوية أخرى.. هي الزاوية الفكرية الاجتماعية:

يجب أن ندرك جيداً أنّ معظم المستوطنين الإسرائيليين الحاليين هم مجرد مرتزقة، فأكثرهم لم يأتِ به إلى فلسطين إلاّ الرخاء المادي الذي وفرته له الحكومة، وإذا كانت الأجيال الأولى من المستوطنين ذات بعدٍ دينيٍّ عقديٍّ في قدومها إلى فلسطين فإن الأجيال الحالية – ومع تزايد معدل العلمنة – تبحث عن العيش الرخيِّ الهانئ! ويدلك على هذا أن الإعلان عن المستوطنات الإسرائيلية في الصحف الغربية لم يعد يتحدث بمنطق العودة إلى أرض الأجداد!! وإنما بات يتحدث عن مزايا المستوطنة مادياً فقط!!

إذنْ الخارطة الإدراكية للمستوطن اليهودي أنه سيأتي إلى أرض ينعم فيها بالرخاء المادي والنعيم والاستقرار.. إذا فهمنا ذلك جيداً أدركنا أنَّ (كل ما ينغص على المستوطنين حياتهم هو في النهاية إحباطٌ للمخطط الصهيوني)!

المسألة إذن ليست مسألة صواريخ لا تزيد على أن تثقب حفراً في شوارع إسرائيل.

المسألة أن هذه الصواريخ البسيطة تهز النموذج الإدراكي للمستوطنين من أساسه، وبالتالي تدفعهم للهرب، ومن ثم يفضي ذلك إلى زوال نموذج إسرائيل كدولة آمنة مستقرة. [انظر ما كتبه د.المسيري في تجربته الفكرية ص: 524 ـ 526].

هل فهمنا الآن قيمة الصواريخ؟ بل حتى قيمة الحجر الذي يلقيه الطفل الفلسطيني على اليهود؟

إنَّ تعطيل الدراسة في جنوب إسرائيل بسبب صواريخ المقاومة يعني شرخاً هائلاًُ في البنية الإدراكية التي صرفت إسرائيل مليارات الدولارات لتغرسها في نفوس مواطنيها.

إنّ صاروخ المقاومة لا يثقب حفرة في أرض إسرائيل فقط.. بل يثقب الكيان الإسرائيلي بأكمله.

الكيل بمكيالين...

ومن عجيب هذه القضية أن كل دولةٍ عربيةٍ – ومعها مؤرخوها وكتابها - تصوِّر حروبها التأسيسية والتحررية على أنها حروب كرامةٍ ووطنية، ثم تُصَوَّرُ حرب المقاومة في فلسطين على أنها حرب عبثية بصواريخ ورقية؟!

في عام 1233هـ قرر عبد الله بن سعود آخر أمراء الدولة السعودية الأولى مواجهة إبراهيم باشا والي مصر، على الرغم من الفارق الكبير في العدة والعدد بين دولةٍ ناشئةٍ ودولةٍ راسخةٍ مدعومةٍ من قبل الخلافة العثمانية. انتهت المعركة باستسلام عبد الله بن سعود، وسقوط الدولة السعودية الأولى، ولم نسمع أحداً يصف تحركاتِهِ بالتهوّر والحماقة!

في عام 1319هـ سار الملك عبد العزيز آل سعود -رحمه الله- بأربعين رجلاً وثلاثين بندقية ومائتي ريال إلى الرياض لفتحها!! أربعون رجلاً فقط ببنادق قديمة يخوضون حرباً لفتحِ مدينةٍ واسترجاع مُلْك!!

ومع الفارق الجنوني في العدة والعتاد.. لم نسمع أحداً من إخواننا الكتاب يصف هذه المواقف السعوديّة بالجنون والتهوّر واستفزاز الخصمِ القويّ!

وفي قلبِ القاهرة ينتصبُ شامخاً ( نصب الجندي المجهول )، لقد أقيم هذا البناء (تكريماً) للشهداء الذين قضوا في حرب الاستنزاف!! لقد كانوا أبطالاً إذن ولم يكونوا حمقى ولا متهورين!! وأكثر من هذا أنك ترى التاريخ المصريّ يتغنّى ببطولات المصريين الذين واجهوا الاستعمار الفرنسي بأسلحةٍ بدائيةٍ بعضُها السيوف والسكاكين!! [اقرؤوا سيرة عمر مكرم ]، كانوا أبطالاً إذن ولم يكونوا مستفزّين لدولة عظمى!!

التاريخ السوري يتغنى بمعارك الأبطال مع فرنسا، والتاريخ الجزائري يفخر بالمليون شهيد في الحرب مع الاستعمار، والتاريخ الليبي يكاد (يقدّس) عمر المختار الذي واجه جبروت إيطاليا بخيلٍ وبندقية!! وقس على هذا كل دول العالم العربي.. كل الأنظمة العربية اليوم تفخر بنضال شعوبها وتحتفل بيومها الوطني.. ألم يكن ذلك النضال غير متكافئ الأطراف؟ ألم يسقط فيه الضحايا؟ ألم تحصل بسببه الكوارث؟ فلماذا كان بطولةً في كل تلك الأماكن وكان حماقةً وتهوراً في فلسطين؟ هل يجيبني أحد أولئك الذين يتهمون صواريخ المقاومة؟

القضية هنا...

إن القضية ليست في ( صواريخ ) تطلقها المقاومة، بل المشكلة عند إسرائيل هي في المقاومة ذاتها، إنها لا تريد أن يوجد شخص واحدٌ يؤمن بخيار المقاومة ولو بعد مرحلةٍ من السياسةِ والمرونة، تريد الجميع أن يكونوا مستسلمين مدجّنين.. ولعلها بعد ذلك ألا ترضى أيضاً! لأنها في النهاية تريد دولة يهودية خالصةً!! ولعلنا نتذكر تصريح وزيرة الخارجية الإسرائيلية مؤخراً حول أحلامها بدولةٍ يهوديةٍ نقيةٍ!! مما يعني طرد عرب 48.. هؤلاء الذين ما حملوا سلاحاً ولا أطلقوا صاروخاً واحداً!!

إنه من المحزن حقاً أن نجد كاتباً يهودياً يتفهم هذه الحقيقة، بينما يجهلها أو يتجاهلها بعضنا، يقول (كاسريلز) وزير المخابرات في جنوب إفريقية (وهو يهودي معاد للصهيونية): "ان هدف الصهيونية منذ البداية هو طرد المواطنين الأصليين حتى تصبح الدولة دولة يهودية خالصة. وعندما أدرك الفلسطينيون هذا بدؤوا بالمقاومة". إنه يفهم جيداً أن المقاومة حالة طبيعية تُجاه مستعمر يريد طرد السكان الأصليين. ثم يقول: "هذا هو السبب الرئيس للصراع، من وجهة نظر الكثيرين"
[http://www.elmessiri.com/articles_view.ph?id=35]

هكذا يفهم هذا اليهوديّ أن علة الصراع هي العدوان الإسرائيلي ابتداءً، ويصرّ طائفةٌ من بني قومنا على أن المشكلة كلها هي في صواريخ المقاومة!!

حكاية التوازن...

وأحسبُ أنَّ الشعوب المستعمَرَةَ والمضطهَدَة لو أخذتْ بنصيحةِ هؤلاء (الواقعيين) القاضية بضرورة توازن القوى وعدم المقاومة إلاّ عند تكافؤ العَدد والعُدد لبقيت إلى اليوم مستعمرةً مستنزفةً خانعةً.

أخبرني عن حالة تحررية واحدةٍ في العصر الحديث أو القديم كان فيها (المقاوِمُ) أقوى من المحتل أو حتى في مثل قوتِهِ!

أين حصل مثل هذا؟ في فيتنام؟ في جنوب إفريقية؟ في الهند؟ في مجمل الدول العربية؟ في فرنسا إبان حربها مع النازيين؟ أين؟!

كل تلك الحالات التحررية التي انتهت إلى استقلالٍ وردّ اعتبارٍ كانت كحالةِ فلسطين اليوم تماماً.. مقاومة أضعفُ عدداً وعدةً بكثير، لكنها تملك إيماناً وعدالة قضية لا يمتلكهما المحتل المدجج بالسلاح، "ولم تكن المقاومة في يوم من الأيام مماثلة أو قريبة في قوتها من عدوها، بل كانت أضعف منه وهي من يُقدّم الشُّهداء، ولكنها تنطلق من توازن الرعب الذي يُجرد المحتل من القدرة على استقراره ويفرض عليه برنامجاً مضطرباً من خلال الآلة المقاومة الأضعف هكذا حتى يهتز الاحتلال ويندحر".
[محرقة غزة بغطاء عربي، مهنا الحبيل [http://www.aljazeera.net/NR/exeres/300BF42D-977B-4B26-AE41-709D207AB00C.htm

وبعد هذا كله.. فإنَّ المقاومة التي انتقلت من مرحلة الحجارة إلى مرحلة الصواريخ، والتي بدأت صواريخها ببضعةِ كيلومترات، ثم وصلت إلى أسدود وسديروت، هذه المقاومة قادرة بإذن الله على مزيد من التطوير وتقليل الفارق يوماً بعد يومٍ.

ختاماً...

إذا كانت العقلانية تعني أن يصبح الضحية مجرماً، والمظلوم ظالماً، فلا بارك الله فيها!!

وإذا كانت العقلانية تعني التجرّد من المروءة والإنسانية، والولوغ في دماء القتلى والجرحى فلا مرحباً بها!!

وحيهلاً بعقلانيةٍ تنصرُ المظلوم وتقول للظالم: كفى.
ـ

No comments: