( هذه الحلقة برعاية جفراء الوطن المسبي )
عندما مات الملكُ الطيِّب العجوز الذي حكم طوال عُمره بالعدل و أحبَّه كافةُ الناس، لم يكن قد ترك سوى ابنةٍ صغيرةٍ ليس بوسعها أن تكون ملكة، و لكنَّ الملك كان قد ترك وصيةً لابنته الصغيرة: "كي تُصبحي ملكةً يجب أن تحملي الشمس إلى القصر، و إن لم تستطيعي عَمل ذلك خلال أربعين يوماً فإنك ستقضين حياتَكِ في صُندوق خشبي مُغلق عقاباً لك!"
و بعد أن قرأتِ الأميرةُ الوصيةَ استدعَتْ حكيمَ القصر و طلبت مشورته، فأخبرها بأنه على علم بالوصية و أنه يجب عليها تنفيذها دون مساعدته.
و في صباح اليوم التالي قررت الأميرة أن تتسلَّق الجبل العالي الذي تمرُّ من جانبه الشمسُ في كلِّ يومٍ، و بالفعل قامت الأميرة بتسلقُ الجبل، و لكنها حين وصلت إلى قمة الجبل اكتشفت أن الشمس ما تزالُ بعيدةً و أنه لا يُمكنُ لإنسانٍ أن يُمسكَ الشَّمس، فعادت إلى القصر حزينةً و أغلقت غرفتها بالمفتاحِ، و أخذت تبكي.
و بعد يومين شاهدت الأميرةُ الحزينةُ ورقةً صغيرةً تحت باب غرفتها، فتناولتها و وجدت فيها الجملة التالية: "لن تستطيعي أن تجدي الشمس في غرفةٍ مغلقة". و لهذا قررت أن تُواصل بحثها عن الشمس و لو اضطُرَّتْ لتسلُّقِ الجبل كلَّ يومٍ، و في الوقت نفسه بعثت منادياً في المدينة أنَّ أيَ شخصٍ يستطيعُ أن يُساعدها في حَمْلِ الشمس إلى القصر سينالُ مكافأةً كبيرة.
و عندما سمع الناس بهذا النداء انقسموا إلى فريقين، فمنهم من ظن أنّ الأميرة مجنونةٌ لأنها تطمعُ في شيء مستحيل، و منهم من رأى أنّها أميرةٌ حكيمةٌ لأنّها تريد أن تُحقِّق شيئاً "مستحيلاً"، و لكنّ الجميع عجز عن مساعدتها..
و مع مرور الأيام، بدأ اليأس يستولي عليها، و بدأت تفقد الأمل في تحقيق وصية أبيها، و في أحد الأيام بينما كانت الأميرة غارقة في تفكير عميق من أجل إيجاد حل لمشكلتها، لاحظت من خلال نافذة غرفتها رجلاً عجوزاً يحاول أن يَدخُل إلى القصر، ولكنَّ الحُرّاس كانوا يمنعونه من الدُّخول ويحاولون طرده بشتّى الوسائل، إلا أنّ العجوز كان عنيداً، فاقتربت من النافذة و سمعت العجوز يصيحُ بالحرس: "أُريدُ أن أدخل لأُساعد الأميرة."
ثم جاء صوت قائد الحرس متهكماً: "أوهل تستطيعُ أن تساعدها أنت أيُّها العجوز الهرِمُ؟"
فصاح العجوزُ قائلاً: "حسناً.. قولوا لها إنه إذا لم يكن بوسع إنسانٍ عجوز أن يدخل إلى قصرها فكيف تطمعُ أن تُدخل الشمس إليه؟"
و أدار العجوز ظهره و مضى، و حاولت الأميرة أن تُناديه إلاّ أنّه كان قد ابتعد، فطلبت من الحرس أن يأتوا به، لكن العجوز كان قد اختفى...
أخذت الأميرةُ تفكر فيما قاله العجوزُ للحرّاس، ثم نادت قائد الحرس و سألته عن الرجل العجوز ، فقال قائدُ الحرس: "إنّ العجوز رجلُ فقيرٌ يأتي كلّ مساءٍ حاملاً قنديلاً صغيراً، إلا أن الحراس يمنعونه من الدخول لأنهم يعتقدون أنه رجلٌ مجنونٌ."
قالت الأميرة: "إذا جاء الرجلُ العجوزُ غداً، فاسمحوا له بالدخول."
إلا أن الرجل العجوز لم يأت في الغد، ولا في الأيام التالية، فعادت الأميرة إلى حزنها و يأسها خاصة و أن المهلة أصبحت على وشك الإنقضاء. و لكنها تمالكت نفسها لأنها تُدرك أن البكاء و الحزنَ لا يحلاّن المشاكل، و بدأت تُفكر من جديد، و فجأة استدعت قائد الحرس، وطلبت منه بأن يأتي بكلّ رجلٍ يسير حاملاً قنديلاً صغيراً إلى القصر لمقابلتها!"
و في الصباح الباكر وزّع قائدُ الحرس كلَّ الحراس في جميع أرجاء المدينة، و أمرهم أن ينتظروا حتى حلول الظلام، ثم يبدأوا بإلقاء القبض على كل رجلٍ يحملُ قنديلاً صغيراً، و أن يُرسلوه فوراً إلى القصر.
و عند المساء جلست الأميرة أمام النافذة تنظر إلى الشارع، وتنتظر قدوم الرجال الذين يحملون القناديل الصغيرة، و فجأة شاهدت في الأُفق المظلم البعيد آلافَ الرجال يحملون القناديل، و يتقدمون نحو القصر من كافة النواحي، و عندما وصلوا إلى أبواب القصر التي لم تكن كافية لدخولهم معاً، فازدحموا أمامها، فطلبت الأميرة من الخدم أن يهدموا أسوار القصر العالية التي تحول دون دخولهم، لكي يُوسِّعوا الأبواب و يتيسَّرَ للجميع الدخول إلى باحة القصر.
و عندما نزلت الأميرة من غرفتها إلى باحة القصر، طلبت من قائدِ الحرس أن يدلّها على الرجل العجوز، و لكن ضوء القناديل مجتمعة كان ساطعاً جداً لدرجة أن قائد الحرس عجز عن رؤية وجوه الرجال.
و هنا تدخل حكيم القصر قائلاً: "حين يحل الظلام، يحمل كلّ رجلٍ قنديله الصغير ليتعرف على طريقه، ولكن عندما تجمعت هذه القناديل الصغيرة معاً توهجت كأنها الشمس، فأنت أيتها الأميرة لا تستطيعين أن تحملي الشمس، ولكن شعبك يستطيع أن يُساعدك في حمل القناديل لتقوم بعمل الشمس في الإنارة."
و كانت الشمسُ قد بدأت بالشروق، فأشار الحكيمُ باتجاهها قائلاً: "أنظري إلى هناك!"
فصاحت الأميرة: "شيءٌ عجيبٌ، هذا يحدث لأول مرة!"
فَردّ الحكيم: "نعم هذا يحدثُ لأول مرة لأنك هدمت الأسوار و الأبواب التي كانت تحجُبُ أشعة الشمس و تمنعها من دخول القصر، فتذكري أن تزيلي الحواجز بينك و بين الشعب ليدخل نور محبتهم إلى قلبك."
ثم ألبسها تاج المُلك وقال لها: "أصبحتِ الآن ملكةً لأنك نفّذت وصيّة والدك."
غسان كنفاني - بتصرف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــالعبرة:
إن لم تستطع حمل الشمس، فاطلب المساعدة فالكثير من القناديل الصغيرة بأيدي من تُحب تعمل عمل الشمس.
و إن أردت أن يدخل الهب قلبك، فاهدم الأسوار بينك و بين من تُحب، فلا تجلس محاطاً بالجدران العالية و تشكو الظلام.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ملاحظة: هذه سلسلة من الحكايات القصيرة التي فيها عبرة، الحكايات ليست من تأليفي و لكني جمعتها و ما زلت من مصادر مختلفة، السلسلة أسبوعية حيث تظهر قصة جديدة كل يوم خميس بشكل ذاتي.
القصص السابقة:
- نعـل الملك
- الإعلان و الأعمى
- حكاية النسر
- حذاء غاندي
- فـي بيتهـم بـاب
- الصبي و النادلة
- ذكاء فتاة
- الوزراء الثلاثة
- ساعة الياباني
- أمسك بيدي
- الحمار الذي يجب بيعه
- رسوم أطفال
- الأب المشغول دائماً
- تحية الصباح
- عقد الألماس
- القناعة كنز لا يفنى
- الحظ و المنطق
- سر السعادة
- ضاع العمر بغلطة
- مصيدة الطموح
- الملك و الصياد
- المحتال
- النملة
- قصة انتحار غريبة
- البائع و المحاسب و المدير
- الأرنب و النسر
- الملك إدريس السنوسي
- مشكلة السيارة
- الرجل البليد
- الحب عن بُعد
جميله جدا
ReplyDeleteتحفة اوووووووي
ReplyDeleteقصة "القنديل الصغير" وهو أول عمل موجه للأطفال كتبه ورسمه غسان وقد كتبت في مقدمته. الى لميس ولميس هي ابنت اخت غسان و رفيقته في الشهاده تحياتي صالح
ReplyDeleteكتير حبيت اسلوب غسان في مخاطبة الاطفال في قصصه، و رسوماته رائعة
ReplyDeleteأدب الاطفال مش سهل على فكرة و أصعب مما نتخيل
شكرا للمشاركة
صالح باشا
ReplyDeleteشكرا ً لك
غسان روعة بكل/أي مقاييس
:)
بحبها هالقصة كثير
ReplyDeleteوكان نفسي وما زال
أعملها فلم كرتون
بس ما في إمكانيات
اسعدنى الحظ ان اجد ابوابك مفتوحه فدخلت مع اشعة الشمس لاتمتع بقصه من القصص التى اعادتنى لزمن الطفولة و القصص التى يحتاج اليها هذا الجيل من الاطفال ليتعلم شيئا من تعاليمها ومعانيها الجميلة الهادفه واعلم انك بذلتم جهدا كبيرا في جمع مثل هذه القصص ولكنكم استطعتم ان تكتسبوا ثوابا كبيرا على ان اججد انا و امثالى شيئا راقيا ورفيعا يمكن ان نقرأه في زمن نحتاج فيه ان نقرأ ونسمع... لكم خالص محبتى وتحياتى
ReplyDeleteاخوكم/نزار النادي- نسيم الحرية
anozae@gmail.com
سلما للسماء: أهلا و سهلا بك في هذه الدكان المتواضعة، و أنا سعيد لأن القصة نالت إعجابك
ReplyDeleteياسمين: أهلا و سهلا بك في دكانتنا المتواضعة، و أنا سعيد لأن قصة غسان قد نالت إعجابك
ReplyDeleteليلى: كل الشكر على رعاية هذه القصة و كل الشكر على المعلومات الإضافية، رحمهم الله جميعاً
ReplyDeleteتحياتي
رين: شكراً على حضورك الدائم في هذه الدكان، و أوافقك الرأي بشأن غسان و أدب الأطفال
ReplyDeleteهيثم باشا: عفواً.. و شكراً على حضورك الدائم هنا، و إن شاء الله نسمع أخبارك السارة قريباً
ReplyDeleteسفو باشا: شكراً على هذه الزيارة اللطيفة بعد طول غياب، إن شاء تكون عودة دائمة
ReplyDeleteإن كانت لديك الإرادة القوية، فبمشيئة الله تستطيع تخطي عقبة الإمكانيات
السيد نزار النادي: اسمح لي أولا أن أرحب بك في هذا الدكان المتواضع دي البوابات المفتوحة و المرحبة بأشعة الشمس و بكل الناس دائماً إن شاء الله.
ReplyDeleteأنا سعيد لأنك أحببت هذه القصص، أشعر دائما بحاجتي إلي تذكر كل قصص الأطفال التي قرأتها في صغري على سبيل المتعة، و الآن كلما أقرأها أجد فيها حكمة لم أرها من قبل، و دائما أجد فيها الشيء الجديد.
أرجو أن تعود لزيارتنا كلما سمح لك الوقت بذلك
مع فائق تحياتي
غسان كنفاني
ReplyDeleteكلمات مغزولة من قلبٍ نبضَ بحب الوطن فبقيت كلماته وستبقى
(قناديل صغيرة في أيدي من نحب وبلا أسوار ، شمسٌ تملأ الآفاق)
كل الشكر صالح
اشكرك على الطرح القيم
ReplyDelete