امرأة مسنة كانت تصلى بالحرم، ثم تجلس بعد الصلاة للدعاء و هي تبكي، ثم تكفكف دمعها لتصلي مرة أخري فتجلس لتدعو و تبكي و هكذا، لاحظت ذلك شابة كانت تصلي بالقرب منها، فتعجبت من ذلك و قالت في نفسها: "لا بد أن يكون لهذه السيدة الوقور قصة كبيرة!"
و في تلك اللحظة اقترب شاب من السيدة العجوز و قبّل رأسها و أخذ يكلمها، ثم قبّل يدها قبل أن ينطلق ليحضر لها زجاجة من الماء و يقبل يدها مرة أخرى و يبتعد، لتعود إلى صلاتها و دعائها و بكائها من جديد.
تغلب الفضول على الشابة التي ذهبت لتجلس بجوار السيدة العجوز و تسلم عليها و تبادرها بالقول: "لماذا تبكين يا أماه؟!"
أجابت العجوز: "لا يوجد شيء!"
فقالت الفتاة: "أستطيع أن أرى حزنك و كمدك و دموعك، فلربما استطعت مواساتك."
سكتت العجوز هنية قبل أن تقول: "من العذاب الذي يعتمل في صدري!"
ثم أخذت تقص عليها حكايتها: كنت متزوجه من زوج يحبني و يحترمني، لكن الله لم يرزقني بأطفال على الرغم من محاولاتي المتكررة، و بالفحص تبين أنني عاقر، فأشرت على زوجي أن يتزوج بأخرى، لم يوافق فى البداية، لكن كثرة إلحاحي عليه جعله يُغيّر رأيه إحتراماً لرغبتي.
بحثت له عن زوجة، و خطبتها له، و تم الزواج، لكن نار الغيرة لم تلبث أن اشتعلت بداخل صدري بعد زواجهما، فهو قد أخذ يميل لها، و بعد فتره وجيزة ظهرت علامات الحمل عليها، فعظمت غيرتي منها، و تطورت غيرتي إلى حقد بعد أن أنجبت له ولداً رائعاً و أشتد فرح زوجي و ازداد تعلقاً بها، فجلست أفكر بنفسي، كيف يمكنني أن أنتقم من تلك المرأة.
في أحد أيام الشتاء الباردة، جاءني زوجي ليقول لي أنه سيسافر مع زوجته الثانية، و أنهما لايثقان بأحد غيري ليتركا الطفل الصغير عنده، و افقت طبعاً.
و بعد سفرهما، ازدادت رغبة الإنتقام عندي، كيف لزوجها أن يأخذ تلك المرأة و يسافر معها و لا يأخذ أنا؟!
في إحدى الليالي القارسة البرودة قمت بإشعال الكانون للحصول على بعض الدفء، و كانت رغبة الإنتقام ماتزال تسيطر عليّ، وبينما كنت مستغرقة في أفكاري، و إذا بالطفل الذي كان بالكاد قد أتم عامه الأول يمد يده داخل الكانون ليلعب بالجمر، و لم أشعر بنفسي إلا و أنا أغرس يده داخل الجمر انتقاماً من أمه، و لم تمنعني صرخات و توسلات الطفل المسكين عن ذلك، و لم أرفع يده إلا بعد احترقت بالكامل، فشعرت بالراحة و بأن ذلك قد أطفأ نار الغيرة في صدري!!!!
في صباح اليوم التالي، جاء من يخبرني بأن سيارة زوجي قد تعرضت لحادث مروري في طريق السفر و بأنه هو و زوجته الثانية قد فارقا الحياة!
و بقيت أنا وحيدة مع هذا الطفل الذي أحببته بمنزلة ابني و أعز، و ندمت على ما اقترفت بحقه، و كبر و عملت علي تربيته و تعليمه، و أصبح هو أيضاً يحبني و يسهر على راحتي و هو مثال الابن البار، و كلما رأيت يده المشوهة تقطع قلبي حُزناً و ألماً عليه، و هو لا يعلم أنني أنا السبب فيما ألمّ بيده.
و الآن أعاني من العذاب و من تأنيب الضمير، و أدعو ربي ليل نهار أن يغفر لي ذنبي!
و في تلك اللحظة قدم الشاب إليها و هو يضع إحدى يديه في جيبه، ثم قبّل رأسها، و أخذ يدها و قبّلها، ثم سألها: "أمي الغالية! هل تحبين أن نذهب الآن؟!"
أومأت له بنعم و عيناها مغرقتان بالدموع، ليساعدها على الوقوف ثم يسيرا للخروج من الحرم و ما زالت يده مدسوسة في جيبه لم يُخرجها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
العبرة:
"وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ"
البقرة: ٢١٦
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ملاحظة: هذه سلسلة من الحكايات القصيرة التي فيها عبرة، الحكايات ليست من تأليفي و لكني جمعتها و ما زلت من مصادر مختلفة، السلسلة أسبوعية حيث تظهر قصة جديدة كل يوم خميس بشكل ذاتي.
القصص السابقة: